بالأمس القريب، كانت الشعوب العربية تتبع الأخبار عبر القنوات الفضائية، وعبر المواقع الإلكترونية، وعبر الجرائد والصحف والمجلات... ومن أفراد هذه الشعوب من كان يبتسم، ومنهم من كان يزبد ويتجهم وتنتفخ أوداجه مثل الضفضع.. كل هذا يحدث فقط لأن الشعوب العربية ـأخيرا ـ نفضت الغبار عنها،
وخرجت إلى الشارع تطلق زغاريد الغضب الحبيس في داخلها لعقود من الزمن...
لقد كنت واحدا من الذين يبتسمون للربيع العربي، وكنت أنظر إلى طفلتي الصغيرة وأنا أقول في قرارة نفسي، ربما ستعيش ابنتي غدا في وطن عربي يحترم وجودها الإنساني بكل ما تعني الكلمة من حرية وكرامة ومساواة.
نعم، كنت أعيش شبق هذا الحلم السياسي حتى الثمالة، وأنا أردد مع ذلك الرجل التونسي عبارته الشهيرة:/ لقد هرمنا .. هرمنا .. هرمنا من أجل هده اللحظة التاريخية/.
نعم كان هذا بالأمس القريب، أما اليوم، وأنا أعود إلى رشدي من جديد، أجد كل تلك الأحلام الجميلة تبخرت، ليسكنني اليقين التام أن البكاء موجود في جيناتنا العربية.. ليس بكاء وجوديا ـ كما هو عند كافكا، و سارتر، وصامويل بيكيث ـ بل هو بكاء عربي تغديه معاناتنا وآلامنا اليومية.. فنحن ربما رضعنا هذا البكاء مع حليب أمهاتنا.. ولادتنا بكاء، وموتنا بكاء، وما بين الولادة والموت بكاء...
لقد ولدت الثورات العربية ولادة خديجا، تمت بعملية قيصرية لم يكتب لها النجاح.. فعلا، سقطت أنظمة عربية، وحلت محلها أخرى جديدة، أما أخرى فتنتظر حتى تزلزل الأرض من تحت أقدامها.. لكن السؤال يبقى نفس السؤال: / هل تغيرت الأوضاع المعيشية للجماهير العربية التي عرفت تغيرات على مستوى أنظمتها السياسية، أم أن البنية الاجتماعية لا تزال على حالها؟../
أظن أن ما يقع الآن في مجموعة من البلدان العربية ليس بالغريب، لأن ثوراتها جاءت بشكل عفوي يختلط فيه الحابل بالنابل، فهي أقرب إلى انتفاضات المقموع ضد قامعه، والعبد ضد سيده .. منها إلى الثورات الشعبية التي تتأسس على نظرية علمية، ومعالم الصراع فيها واضحة، تقدم لنا مشرعها المجتمعي البديل، والمؤسس على قرائن علمية، تلامس كل الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. بعيدا كل البعد عن الشعارات الطنانة والخرافات.
هكذا كنت بالأمس القريب أحلم مثلكم جميعا.. كنت أحلم فقط وأنا أتقنع بالربيع العربي، حتى أخفي وجهي أمام تساؤلات طفلتي الصغيرة التي أقرؤها في محياها كلما نظرت إليها، وتذكرت الواقع العربي الذي تعيش فيه، وستكبر في أحضانه.
آسف يا طفلتي الجميلة.. نحن قوم كتب علينا البكاء والعذاب .. جدك منذ ألف عام ـ ويزيد ـ كان يبكي .. وأبوك اليوم يبكي .. وغدا أنت ستبكين، وسوف يبكي أحفادك من بعدك...
نعم يا طفلتي الجميلة.. سنظل نبكي ـ مثل ذلك الشاعر العربي المنكسر الجناح ـ أطلال أمتنا العربية.. نتذكر فقط الأيام الخوالي، أما ما يحصل اليوم على الساحة العربية، فنحن لا نجد من العبارات ما نصفه به، خيرا من كلمات ذلك المثل العربي القديم:/ تمخض الجبل فولد فأرا