ان النقاش العام المسيطر على اللحظة التاريخية في وطننا الحبيب،والمتسم اساسا بالرفع من سقف وثيرة الحراك العام السياسي والحقوقي ،والمناخ العام الذي افرزه داخل الشعب و قواه الحية ، جعل لسان حال المغاربة ككل يلهج بالتغيير ويتوق اليه . لكن هذا الطموح يقابله سؤال صادم : ترى اي تغيير نريد ؟ او بمعنى ادق عن اي وطن نبحث ؟ لاشك ان العقل السياسي المغربي اجتاحته ظواهر و سلوكيات جعلته يعيد النظر في اليات اشتغاله وفي وسائل الفعل الاجتماعي لديه داخل مجتمع دائم التطور و التجدد
فالفعل السياسي العام موجود لكنه غير محسوس ،بمعنى ان الحركة فيه دائمة ومستمرة لكنها غير فعالة بالقدر الذي يحول الفعل الى* واقع مصاحب* لكل تفاصيل الحياة العامة
فالعقل السياسي المغربي هذا والديناميكية المجتمعية التي انتجها على طول سنوات ما بعد الاستقلال -وان كنا نعيب بطئها واحيانا قليلة تخاذلها-يبقى لامنغلقا ويتيح هامشا لاباس به للتطور والتقدم شريطة اعادة الاعتبار لمفاهيم وادوات نقدية اساسية في التحرك السياسي وتوسيع افاق الانفتاح والتجديد عبر صيغ تنظيمية وسياسية اكثر ديمقراطية
فاذا كان من درس مستفاد من الثورة العربية في ربيعها المتاخر ،فهو ضرورة وضع نهاية لما يسمى ب'السلطة الثابتة ' اي السلطةالمحورية التي يدور في فلكها القضاء والاعلام والانسان و الدولة اي الثابث التي يرتبط بالهامش بفيالق من المصالح الصرفة . فلاسبيل ،في نظري نحو الدولة الديمقراطية دون اسقاط هذه السلطة ، القائمة على الفساد و الرشوى والظلم ، وطغيان المصالح والنفوذ و الزبانية وتهريب الاموال وتبيضها
انها سلطة قائمة في تضاد تام مع القانون واسس الدولة الحديثة المبنية على فصل السلط و برلمان حقيقي يعكس ارادة الشعب و طموحه واحلامه ،وسيادة تامة لمبادئ حقوق الانسان وحرية الاعلام والفن والثقافة من دون قيد او شرط
فما المقصود ب السلطة الثابتة؟ لاشك انها سلطة المنتفعين والسماسرة و المهرولين واصحاب المصالح ودعاة التلميع والتطبيل، بصفة هي سلطة منصبة بقوة الواقع فوق الواقع ذاته وفوق المؤسسات وحتى فوق الدولة نفسها.
انها سلطة خلقتها الدولة المغربية في مرحلة الصراع السياسي بين النظام المغربي والقوى التقدمية ،لكنها تحولت الى عبئ عليها بل ومهددة لها بشكل حقيقي حيث انتجت ادوات اشتغالها و سياسات الانتفاع والاحتكار لديها ودافعت عنها بقوة
ان اسقاط هذه ' السلطة الثابتة ' لايعني الهدم او التكسير بل يعني تمردا على تفاصيلها في حياتنا ، تمردا بالمعنى الفلسفي الصانع للتاريخ و الانسان بما انه فلسفة في السياسة ، وليس بالمعنى الفوضوي المهووس باحلام الفاس والمطرقة والدم
هذا التمرد الايجابي الذي لا يعني بتاتا الكراهية والحقد او التسمم الذاتي المعيق للتطور والارتقاء ، بل القصد في كونه حالة انسانية صرفة تقرنه بالادراك التام للكينونة و سرها . بمعنى ان الفرد في صياغة تجاربه وتفاصيل حياته اليومية يخلق معاناة و حركية لاتزيد عن كونها فردية ، لكن التمرد بما يملكه من قوة جذب سحرية ،يحول المعاناة والكبث والخوف والحلم من حالة فردية معزولة الى تجربة جماعية حقيقية
ان الدولة المغربية الراهنة ،ورغم الاصلاحات المتواصلة والايجابيات التي حصلت بفعل التراكم الايجابي لتضحيات الشعب وقواه الحية في تماس ايجابي مع كل الحركات الاحتجاجية المطلبية من جهة ومبادرات ملك المغرب من جهة اخرى ، مازالت السلطة فيها مع الاسف الشديد مركزة و شبه ومطلقة خاصة في القضايا الاساسية والتي تتحكم فيها ' لوبيات ' و فيالق موت ' معادية للتغيير والتطور والتقدم ، جيوب مقاومة حقيقية ترتكز في صياغة بقاءها على اليات احتكارية متعددة ومتشعبة (اقتصادية واجتماعية وسياسية ) تعيش كالبكتيريا على هموم الناس واحلامهم ومستقبلهم
ولكي تتحرر الدولة المغربية لابد من تفكيك هذه الاليات الموعقة للاصلاح واحدة واحدة ،مثل جميع الاحتكارات الاقتصادية مما يؤدي حتما الى انفجار حقيقي للطاقات والكفاءات وتصير الدولة على مرمى حجر من التحول من دولة حاضنة -بحكم الواقع-للسيطرة والاحتكار و النفود الى دولة حديثة، ديمقراطية تتيح الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة لكل موطنيها
هكذا تبدو في نظري ملامح التحديث ومداخيله العامةالمرتبطة اساسا بعقلنة الدولة والسلطة من خلال فصل حقيقي ودستوري للسلط واقرار عالمية مواثيق حقوق الانسان والمساواة والعدل وتحديث التعليم وتحسين الوضع الاقتصادي عبر صياغة قوانين واليات واقعية لتصريفها تجرم الرشوة والمحسوبية والتهرب الضريبي والتحايل على القوانين ،حتى تصير المنافسة الاقتصادية مقرونة بالكفاءة والجودة والفعالية لا بالرشوى وشراء الضمائر. هذا وطننا الذي نرتضيه . وطن يتسع لكل المكونات و الافكار والاتجاهات ، وطن يحضن ابناءه دون تمييز لغوي او عرقي او ديني ، وطن يتيح حق المواطنة لكل ابناءه و يلزمهم بواجباتها في تجاذب حضاري خلاق ،يفضي لامحالة الى واقع مغربي ناضج ،وقابل للرقي بالتجربة المغربية الى مصاف التجارب الانسانية الرائعة