رؤية جديدة لعلاقة الإنسان بالكون
بهذه العبارة صدَّر الأستاذ عزت الأمير كتابه (صدمة العري) والذي سعى من خلاله لنسج خيوط ميثولوجيا جديدة تتناول نشوء الكون ، منذ اول اختبار في البشرية رسب فيه آدم وتحليل نتائج وآثار هذا الرسوب على ذريته من بعده
في البداية نلقي ظلالا خفيفة على عنوان الكتاب " صدمة العري " والذي استمده الكاتب من نظرية صدمة الولادة أو العطب الولادي لـ "أوتورانك" حيث يرى أن الجنين في رحم الأم يعيش في سلام مطلق ولذة لا حدود لها ، يحصل على احتياجاته دون أدنى تعب أو حتى مجرد الطلب ، إنه باختصار يعيش في جنة وفجأة يطرد منها عن طريق الولادة والتي تعتبر أقسى تجربة يمر بها الإنسان في حياته إلا أن عقله يتولى كبتها عن ذاكرته ، لكنه دون أن يشعر يحاول معالجة هذه الصدمة إما بالإنتقام والسخط على طرده من الجنة (جنة الرحم) بارتكاب سلوك ما أو برفض الفكرة بعينها ومحاولة الإختباء منها .
يرى أتورانك أن عدم تقيد الطفل في إخراج الفضلات ما هو إلا تعبير عن رغبته في استمرار حريته المطلقة التي تمتع بها من قبل داخل الرحم . نفس الشيء ينطبق على لذة الرضاعة ، وقد يرى أتورانك أن مرحلة الفطام تمثل عطباً ثانياً تترتب آثاره أولاً وآخراً على العطب الولادي ، ولذلك نجد مثلاً لذة بعض الأطفال في مص أصابعهم ، ولذة التقبيل لدى الكبار ، ولذة التدخين . وعند مرحلة البلوغ تسيطر عليه مسألة الإنجاب ويسعى في اكتشاف المكان الذي كان يعيش فيه قبل الولادة والذي يتذكره بالكاد بسبب عملية الكبت التي تمت . ص17
وبالتماس مع النظرية دون أن نحدث إختلافاً جوهريا فإننا نحل العري محل الولادة باعتباره -العري- أول نتاج الخطيئة الأولى وكذلك أول نتاج عملية الولادة وبالتالي نراه عطباً مستقلاً له فعالية تفوق العطب الولادي ، فالعري تجرية غير عادية يمر بها الإنسان ، ولكي نوضح مدى تأثير "صدمة العري" على المولود نشير الى أن قصدنا بالعري يتجاوز فكرة التجرد من الملابس إلى مسألة فقدان الحماية التي كان يتمتع بها الجنين داخل الرحم وقد تمثل ذلك في التغير الفجائي لدرجة الحرارة في العالم الخارجي عن الرحم سواء بالزيادة أو النقصان ، والملامسات الخشنة مقارنة بليونة ونعومة جدران الرحم ، وإيقاعات الأصوات المختلفة التي تصدم طبلة الأذن بعد الإيقاع المنتظم لضربات قلب الأم ، واحتكاك الهواء عند أول شهيق بالجدار الداخلي للأنف والقصبة الهوائية . ولنا أن نتخيل حيواناً بحرياً أخرج من قوقعته أو سلحفاة نزع عنها درعها أو أرنبا سلخ جلده . ص43-44
يكبر الطفل ويدرك عضوه التناسلي وأن الأنثى لا تختلف عنه ، وهو بذلك يعبر عن رفضه للعضو التناسلي الأنثوي والمتعلق بمحنة الولادة ، ولنفس السبب ترفض البنت عضوها التناسلي ويكون لديها اشتياق لعضو الذكرالجنة بعري الطفل الذي اقترن مع خروجه من جنة الرحم وعلى هذا الأساس نعزو رفض الطفل لعضو الأنثى التناسلي لسبب أن حواء كانت البادئة بالعصيان ونفس السبب لدى الطفلة تعبيراً عن شعورها بالذنب وثم بالنقص تجاه آدم وتفوقه عليها (وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك) تكوين 3 : 16 .ص44
وكما يحاول آدم القيام بأعمال معينة تؤهله مرة أخرى للعودة إلى الجنة ، فإن الإنسان بشكل عام يمر خلال حياته بكل محاولات البحث عن جنة الرحم ، وإن رأى أتورانك أن دخول القضيب في فتحة المهبل يمثل الرغبة في وصل الحبل السري والذي يمثل أخر نقطة إتصال بين الجنين وجنته فإن القبض على مفهوم واحد للحنين إلى الجنة سيكون من الصعب إحكامه
باختصار
1. أكل آدم وحواء من الشجرة المحرمة = الولادة
2. إدراكهما لــعريهما = إحساس المولود بالعري
3. صدور الأمر بطردهما من الجنة = قطع الحبل السري
طلة على أرض الخوف
ربما أنه من النادر جداً أن نصادف عملاً فنيا يقبل كل التأويلات والنظريات والإفتراضات ويخاطب كل الشرائح والفئات المجتمعية والعقليات الثقافية المختلفة بهذا الشكل الذي حققه فيلم أرض الخوف .
اللقاء الأخير مع القيادة العليا الذي تسلم فيه المهمة:
والذي يمثل أولى عتبات التعبير عن خروج آدم من وسط زملائه وصف المحافظين على قيم الخير والعدل والأمان ، حيث يختار آدم مصيره ونراقبه وهو يتأمل التفاحة في شيء من التلذذ قبل أن يأكلها وتبدأ الخطيئة .
دورة التحول من اليقين إلى الشك :
منذ بدأ آدم مهمته وهو يمارس أداءه باتقان وبكل المتعة التي سببتها له ثقته في أنه ما زال متصلاً بالقيادة العليا عن طريق الخطابات والتي كانت أيضاً دافع شك بعد فترة من اللاجدوى في أنه مازال على الطريق الصحيح أم لا ؟
آدم: في هذه الأيام عشت أكثر أيام حياتي حيوية ، إشتعلت جذوة وأشاعت حرارتها في كل حياتي ، كنت أعيش حالة خاصة ، فقد كان عندي تصريح أخلاقي بأي فعل أريده يشمل كل شيء بلا قانون محدد ولاحتى ضابط أخلاقي إلا تقديري الشخصي بما ينجز مهمتي ، هرَّبت وجعت وكسبت وخسرت وهوجمت وقتلت وغويت واغتنيت ، كل هذا كان من أجل هدف أسمى يرفع عن كاهلي الخطايا ، ولكنه لا يحميني من الأخطاء ، لذلك فقد كان ارتكاب الخطايا أسهل كثيراً من ارتكاب الأخطاء ، كنت قد كفرت بوحدتي في أرض الخوف وطلبت العون إلى أن جاءني بعد أن كدت أفقد الأمل
وهنا يظهر دور موسى(عبد الرحمن أبو زهرة) حلقة الوصل التي أثارت هاجس الشك في المقابلة الأولى وقطعت أمل الرجوع في المقابلة الثانية
ولنعيد رسم الشخصيات
الجنة = الحياة الأولى وسط الزملاء الذين يمثلون حياة الخير والعدل والأمان
أكل آدم من التفاحة (قبول المهمة) = الولادة على أرض الخوف
إدراكه لعريه = مؤامرة عمر الاسيوطي التي قلبت السياق السيكولوجي لآدم وصار يستنفد كامل قواه لمحاولة التأكد وإثبات ولو بأقل نسبة أنه ما زال على إتصال بالجنة وأن الخطيئة إن كانت سبب شقاء فهي وسيلة لراحته فيما بعد أيضاً
قطع الحبل السري = وفاة موسى
لماذا يصر آدم طول رحلته على أن نهايته لابد أن تكون بالعودة مرة أخرى إلى بيئته السابقة رغم اكتفائه من الأموال والنفوذ ما يمكنه من الحياة بصور عديدة ومختلفة ؟
هل يمكن أن نفسر أن الرحلة بكاملها هي رحلة للبحث عن الجنة التي يتوفر فيها الأمان والغذاء والحماية والعدل ؟ لكنه أكتشف فشله في النهاية بعد أن أتم مهمته في العودة إلى وضعه السابق فصار حنينه إلى أرض الخوف ثانية كبديل ، وفشل في أيضاً في ذلك واستمر في رحلة البحث عن الجنة المفقودة وهذا كل ما يمكن أن أصف به فيلم أرض الخوف
ويطل عزت الأمير من هذه النظرية على قصة الخلق كما وردت في سفر التكوين وإن كنت أرى من خلال رؤيتي أنه لايوجد إختلاف كبير بين قصة خلق آدم في التوراة عنها في القرآن الكريم إلا أن النص القرآني فقط جاء مراوغاً متمنعاً وليس كاشفاً كما الحال في سفر التكوين
(فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر . فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل . فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانين . فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر) تكوين 3 : 6
ويبدأ طلق الأسئلة
1. إن كان هناك علاقة ما بين مخالفة أمر الله والعري ، فهل هناك علاقة ما ربطت بين العري والخجل ؟
2. لماذا تركز مفهومنا حول عصيان آدم بالأكل من الشجرة على الجنس ؟ أو بعبارة أخرى لماذا اقتصرت الخطيئة الأولى على الجنس ؟
3. لماذا تحولت قصة آدم وحواء لاعتبار شجرة الخير والشر شجرة تفاح ؟ ولماذا التفاح بالذات دون بقية الفاكهة ؟
إن أول شعور بالخجل من العري عرفه الإنسان في عهد آدم ، ولكن آدم وحواء كانا عريانين قبل أن يعصيا أمر ربهما فيدركا عريهما (فوسوس لهما الشيطان لييبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما) ، وعندما ننطر في تاريخ الشرية سنجد أن الإنسان القديم لم يعرف الخجل من عريه وقد بدأ يستر جسمه للحماية من الطقس ، ثم بدأ يضع هدفا أخر الا وهو ستر عريه ، فمتى كان ذلك ؟ ص8
وقد اتفق فرويد ويونج على الإعتقاد بأن العقل البشري يحمل رواسب عتيقة جدا من تاريخ البشرية في "اللاشعور" يكون لها دخل في نطاق افعالنا وعادتنا وتقاليدنا ، فعقلنا مثلا يسلم بأشياء دون بذل مجرد الجهد في تفنيدها وتحليلها ، وسيبقى السئوال هو على أي خلفية او رواسب رجع اليها عقل آدم في خوفه من عريه ؟ (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) الأعراف 25
الخطيئة الحقيقية لآدم هي الجنس
منذ أجدادنا الذين سكنوا قمم أشجار الغابات الإستوائية هربا من الوحوش المفترسة ، ففوق قمم الأشجار زال الخوف إلا من
1. لدغات الثعابين والحيات التي تتسلل في نعومة وخفية
2. السقوط من فوق الأشجار بسبب فقدان التوازن أو أثناء النوم
وهكذا ارتبطت الحياة فوق قمم الاشجار بالخير والشر وظل الإنسان القديم متيقظاً حتى في أثناء النوم لكن في لحظات غيبوبة الجنس التي يتعرضون أثناءها للدغ الحيَّات ،ومن ثم السقوط من فوق الأشجار ، وهكذا اقترن الجنس بالحية بالسقوط والتعرض لخطر الموت ، ومن هنا أصبح الجنس خطيئة مميتة واستحق لقب الخطيئة الأولى واقترنت الحية (الشيطان) بخطيئة الجنس واستحقت اللعنة "لأنك فعلت هذا ملعونة أنت" تكوين 3 : 14
(فقلنا يا آدم هذا عدو لك ولزوجك فلايخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) طه 116
(يابني آدم لايفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ)الأعراف 26
وهكذا يتضح حقيقة خطيئة آدم في التوراة والقرآن وقيمة العري ومقدار (سوءته) ليحمل شعار الخطيئة الأولى
أسطورة تفاحة آدم
لك أن تتخيل أنك في مرة ستلاحظ أثناء تناولك لتفاحة ما أن بداخلها دودة ، ربما لن تندهش حينها كثيراً أو تتسائل كيف دخلت الدودة دون وضوح أي ثقوب على سطح التفاحة ، لأنك تعلم أن الديدان يغزو برعم ثمرة التفاح ويسكن فيه حتى تنضج ، لكن ما بالك بالإنسان القديم الذي لا يتوفر لديه هذا القدر من العلم والمعرفة فنظرا لجهله بهذه المسألة العلمية ، فقد قرن هذه المعجزة بمعجزة الحمل ونشأة الجنين داخل المرأة ، ومن ثم جعل التفاحة رمزا للجنس ، هذا بالإضافة أننا حين نشق التفاحة إلى نصفين نجد أمامنا شكلاً يشبه العضو التناسلي للأنثى !
وبما أن للحبل السري عظيم الدور في بقاء الجنين المتصلاً بجنة الرحم ، فأنك ستلاحظ بسهولة لو دققت النظر أن منبت فرع التفاحة أكثر شبهاً بتجويف السرة منه في أي فاكهة أخرى . ص39
وهكذا يظل الكاتب يتقافز من شرفة إلى شرفة في محاولة لرسم معالم أوضح لنقطة بداية هذا الكون وعلاقة الإنسان به ، فيمر بنا عند صدمة العري والسيد المسيح ، ثم صدمة العري والكون (العقل والروح والجسد) غير بعض المحاولات الرياضية والذهنية التي تتيح رؤية أوضح عبر عدسة التاريخ والأرقام والنظريات العلمية والميتافزيقية لعلاقة الإنسان بالكون