ربّما أورثتنا الأرض كلّ أسرار عشقها ووحامها وحملها ولكن يباح لها أن ترسل طلقها زلازل وبراكين وأن تبوح بحبّها قمحا وفلاّ وغزلانا بيضاء وليوثا صفراء ، ولكنّه لم يتسنّ لي ولا لأمّي أن نزّين كما تفعل الأرض ، نخاف من وجدنا عيون المتلصصين وصرامة المترهبين والسّالكين فجاج الليل والمغلقين علينا بمراتيج الخشية . لكنّي مع ذلك أنزل في ليل أزرق أتوسّل سلّما ضيقا والسرداب ملغوم ،خطوة معقودة إلى الأمان وعشر إلى الهلكة ولست رغم ذلك محتاجة إلى ضوء ،وعيناها مضيئتان وسوارها النّفيس لامع وماكانت لتتزيّن بعد موت أبي ، لكنّها طلعت ليلتها في حسن خرافي كقمر يطلع من قبر وفكّت للمرّة الأولى جدائلها محاولة إخفاءها تحت غطاء شعرها الشفاف وأدلت أقراط جدّتها الموشاة بالخرز الأسود والعقيق الأحمر وأراقت على رأسها من قارورة مهجورة في قعر الخزانة .
ربّمالن أصل إلى آخر السّرداب وتأكلني غيلان الليل والجنادب الزائغة، لكنّ وجهه كان يملأ وجهي وأتنفسه بملء روحي كما يتنشق طفل برتقالة وأسأل الله أن لا يئّز باب وأن لا ينطّ جرذ عليّ أو سعلاة نفساء وأكون أنا وطئت ساقها أو دست على ذيل صبيّها الغول.
يهدل صوته في الفضاء الخلفيّ لرأسي وأقفز الدّرجات كحبّات من البرَد ويأخذني إلى سابع جنّته ووجهانا يتداخلان كظلّين وأصيرعينيه ويصير جبيني ونتضاحك بملء قلبينا ويقطر عسل لقيانا، ويقول كيف تأتين هكذا حاسرة ولو أنّ بصرا أدركك لدكّت الأرض علينا ...وأقول خرجت أمّي في زمانها وتركتنا نياما، وتبعتها وجلة ورأيتها تركض كالنّهر ووشاحها سقط ولم تأبه ورقصت مع الريح في الوادي ورأيتها تشرب من كفّي رجل الواحة رحيق النخل وغنّت معه غناء لم أسمع أجمل منه :
ياجنان الفلّ لهبّت الأرياح
العقل يدرولْ
سكّانو زوز طفلْ
ولا يرحمْ من كان حزّاره
ياجنان الخوخ
لهبّت الأرياحْ
العقل راهو يدوخ
سكّانو زوز فروخ
ولا يرحم من كان حزّاره
ثم عادت إلينا في الفجر بيضاء كالفضة، وسكنتها بعد ذلك علّة لادواء منها وماتت ذات غسق وهي راضية هادئة، تصوّرتها تراه واقفا عند رأسها يريق حسنه عليها وهي تبتسم فيعذب بذلك موتها وترتاح.أذكرها قبل ذلك في تلك الليلة المقمرة ، لم أكن نائمة، لكنّ أمي ظنتني كذلك وكانت الأرض حارّة والقمر يفضح حركة الظنون والكلاب البعيدة تعوي ملذوعة بوهج الأحجارالمكدّسة على حوافي الدّور.شربت أمي أكثر من عادتها وكانت عمدا تريق الماء على عنقها ومن حين لحين كانت تزيح عن رأسها الغطاء وتصبّ الماء من عل حتى يغمرها كلّها كأنما تطفئ غابة محترقة .وكنت أسال قلبي الصغير مالذي جعل وجهها ضامرا وشفافا على ذلك النحو ،وعيناها في قلق تحاول إخفاءه فلا يستجيب وشفتاها في انقباض كأنما تصبر على نصل في أحشائها، وكانت ترسل من حين إلى حين زفرة كانما تحمل على صدرها الأرض .مالها أمي؟ وماهذه الحركة التي لا تهدأ ...تخرج ثم تعود حاملة أي شيء ، تملأ السطل وترش الارض حوالينا ، تغطّينا وما كنّا في حاجة لغطاء ، تتفقّد أشياءها في ركن الدار وتتفقّد الجداء بالمراح ,وتنظر إلى القمر المتعالي ووجهها شاحب...أقلق أنا وأسألها إن كانت موجوعة فتنزعج ليقظتي وتدعوني للنوم تذكّرني بما نتظرنا في الغد من أشغال وأتقلّب على جنبي وأتظاهر بالنوم وتختفي أمي فجأة وما من شاهد عليها الا النجوم والذئاب التائهة .
أقف على قبر أمي ،مشقّقا كان وعليه زهور زرقاء غريبة لم أرها قطّ في حياتي ، وعند قدميها عشّشت يعاسيب ذهبية اللون ،عمّتي قالت تلك أعمالها الصالحات .وذكرت بكاء أمي الحارّعند شجرة البطوم الكبيرة والطاقية البيضاء التي كانت تخبئها في صدرها ، وأذكر يوم زارنا الأخضر مع أخته وأرسل خالي في طلب أمي .نفضت يديها من الدقيق وقالت ماكنت لأتزوج بعد موت سالم وأطفالي رقاق الاصابع ورزقي وفير ولو فكّرت في زوج فلن أجد أحسن من الأخضر ـ جارناودمنا وخلق شهم.
وأنا سمعتها تعد ذلك الرجل الغريب بالزواج، بعد أن ترتّب الأمر معنا وتطمئنّ علينا .
وقف الأخضر مغتاظا وتبعته أخته، وخالي اكفهرّ وجهه وخرج دون أن ينبس بكلمة.ولكن أمي كانت تنتظر بائع السلال والسّجاجيد ،وكم يحسن وجهها إذ يهلّ من أول الزقاق وكم تغدق على الصبيان من خبزها السميذ وكم تدعوهم أن يشتروا سلاله ومراويحه الصغيرة،وكم كانت تعجب للطريزة التي توشي القفاف وتسأله عن جريد النخل كيف يرقّقونه ويظفرونه.
ويحدّثها طويلا عن الواحة وظلّها وروحها وريحانها وتتسع عيناها كأنّ نزعا بها وتقول في سرّها خذني إليها ،ويطيل الغريب المكوث عند الباب وأمي تأتيه بالماء والطعام ،وأنا رأيتهما معا على حافة القمر يركضان وقد تخلّصا من وقر السنين وصارا صبيين ،ورأيته يحملها على كتفيه لتصل إلى النخلة وأنزلت رطبا شهيا ولمحتهما ذات مرة يركبان غزالة الريح ويخوضان في الكثبان وأمي أصابها بعد أيام وهن عند الفجرونهضتُ مذعورة مرتجفة وماكان أذا الفجر ليفزعني قبل ذلك.
أصل إليك أولا أصل ، تلك أخر التخمينات وما كنت محتاجة إلى غير صوتك ينثر عليّ نرجس الوقت وضحكنا يهلّ علينا هكذا إذ نلتقي فكأننا في فقاعة من فرح ونمتلئ بمرح غريب لا أنت واجده في مكانك ولا أنا واجدته في مكاني كأنما نصنعه حالما نتلاقى ، فرح نابع من نور عينينا ، شفاف وله سرعة انتشار غريبة ، نراه يعلو الأشجار والديار ويقرفص فوق السحب فكأنما الدنيا في عيد ,وأنسى معك أن الجدار الذي تركت ورائي فيه فلول وحشرات مميتة وتنسى معي ان البئر التي تركت وراءك معطّلة ونحلم معا بالمطر.
ولكنّي اليوم أناديك فتنأى وأمدّ أصابعي لأنزع خيط الشك من شعرك فيتجهم وجهك وأراه نحاسا وأغنيك فلا تترنّم وأنثر لك بساط الصوف في سقيفة دهشتنا فتتعلّل بالوقت وتنظر فزعا إلى الظل يميل وتقول فات الميعاد وأنا ينحفر ثقب هائل بين ضلوعي وأبحث لك عن الأعذار فيضحك منّي عقلي ،وأذكر قولي ذاك المساء إنك لست فحلا اريده ولا جدارا أسند عليه ثقلي أو سحابة أستظلّ بها من القيظ ،ولكنّك فاتح روحي بعد جهل وشاكّ قلب شكي يرمح يقينك وناثر كمأ الطفولة فوق بيدي ومنا ديني بلغة أخرى فيها طلّ ونرجس ولحون وأراك فأضحك أضحك حتى أخاف على العالم أن لا يبقى فيه إلا الحزن وأخمّن إن كنت سأموت مثلما ماتت أمي هكذا ويدها ممسكة بالمروحة والطاقية بيدها الأخرى تمسح بها ما ارفضّ من عرق واقول لك ،ما من أرض تسعك غير أرضي ولا قمر يستنير بوجهك غير قمري ، ولو هجرتني فإنك هاجر نفسك وأخاف عليك التيه ، وتقف بين يدي متلجلجا وعينك تأبى أن تستقر في عيني، فآمرك أن اذهب وسح في الأرض ،فلن تهبّ في وجهك طيور ولن تقف على قوائمها الخلفية غزلا ن لاستقبالك لا ولن يراق على كفيك كلّهذا الغناء.سحْ ، فلعلّه إن أصابك سغب أو نصب وغارت نجوم الأفق أمامك تشدّ الآمال إليّ وتناديني وتطرق على حذع شجرتي وترشقني بفاكهة الرمّان ، لعلّك تفعل ذلك أو تخطّ على شاهدة قبري بإصيعك ماذا لو حوانا هذا المنزل معا"، خلتك تفعل ذلك ولكنّي رأيت رجل الواحة الغريب يفعل ذلك على قبر أمّي. "
فوزية العلوي تونس