حميد زيد
قبل عقد ونيف، تمكّنتُ، ولأول مرة، من نشر مقال لي بجريدة «الاتحاد الاشتراكي». لم يكن، حينها، سهلا أن يظهر اسمك في هذه الصحيفة؛ ولذلك أخذتُ نسخة من العدد ووضعتُها في حقيبتي الجلدية، مستغلا أية فرصة لأفرج الأصدقاء عليه. كنتُ أضع نسخة العدد على طاولة المقهى، وأخرجها بدون سبب يدعو إلى ذلك، ليقرأني الناس وليشهدوا بأني اقتحمت تلك القلعة الحصينة، التي لا يدخلها إلا الكتّاب المكرسون. بعد ذلك، ظهر مقال ثان وثالث ورابع، فكنتُ أنتفش مثل طاووس، وأخرج من البيت ليراني القراء ولأتبجح على الشعراء والصحافيين والمناضلين؛ فأطوف بمقالاتي ليعرف الجميع الخبر، وليبلغ الحاضر الغائب بأني أنا حميد زيد، موجود اسمي وتوقيعي في صحيفة «الاتحاد الاشتراكي». كنتُ أشعر بغرور لا يقاوم، فليس متاحا لأيّ أحد أن يتمتع بمثل هذه الحظوة، حيث كان ما يسمّى الآن بالصحافة المستقلة في بداياته الأولى، وكانت الصحافة، عند جزء كبير من المغاربة، تعني «الاتحاد الاشتراكي»، التي يتسابقون على عددها كل يوم في المقاهي، وينسخون كلمات أبي سلمى المسهمة. وكما يدمن البعض على التدخين والخمر، يدمنون هم على تلك الجريدة. لم يكن من الممكن أن تصبح كاتبا معترفا به في المغرب دون أن تخطو هذه الخطوة، وهناك من ورد اسمه فيها، وأصبح مباشرة عضوا في اتحاد كتّاب المغرب. وما أتعس من لا يقبله الاتحاديون في جريدتهم، يظل يزعق ويشتكي ويبكي إلى أن يلغوا الحظر، فيشعر المعني بالأمر كأنه ولد من جديد، وهو يرى اسمه في الملحق الثقافي للجريدة أو في صفحة من الصفحات. كان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو في المعارضة، دولة داخل الدولة. وكانت سلطته تسري على المجال الثقافي وعلى الجمعيات والمجتمع المدني والنقابات. وكان يمارس سلطته ويستظهر قوته، دون حاجة إلى مشاركة في الحكومة. وكان أطر الحزب والمتعاطفون معه موزعين في كل مكان وفي كل الإدارات. وتوجد، إلى حد الساعة، في دواخل كثير من السياسيين رغبة دفينة في أن يكونوا اتحاديين، رغبة مقموعة وغير مصرح بها لدى قياديين في التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة وأحزاب أخرى. ليسوا اتحاديين الآن، فقط لأنه كان صعبا أن تكون اتحاديا، وطويلة وشاقة هي الطريق كي تصل إلى القمة، كما أنها لا تفضي إلى منصب وزاري، أيام كان مصعد الحزب ممتلئا عن آخره ويصعب ركوبه دون زحام ومنافسة ومعارك ضارية. وأعرف كثيرا من الاتحاديين الصامتين، الذين تراجعوا إلى الخلف، بعد أن عجزوا حتى عن العثور على موطىء قدم في شبيبة الاتحاد الاشتراكي، فما بالك باللعب مع الكبار، قبل أن يصبح باب الشبيبة مفتوحا للعموم، ولأي شخص كيفما كان. الذين خرجوا هذا الأسبوع ليشيّعوا في الجنازة المهيبة للراحل محمد جسوس قاموا بذلك، أولا، تكريما لروح مناضل اتحادي كبير وأستاذ كوّن أجيالا، وثانيا من أجل صورة ورمز مقترنين بالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كأن الحزن الذي خيّم على وجوه عدد كبير من المغاربة كان على الحال الذي صار عليه الحزب اليوم. ينظرون إلى نعش الراحل، وفي بالهم صورة للحزب لم تعد موجودة، ونماذج من المناضلين الاتحاديين والأخلاق الاتحادية والقيم الاتحادية اختارت الانزواء والصمت.
ليس طبيعيا أو عادلا أن ينتهي كل ذلك الزخم والتأثير وكل تلك القوة، وليس طبيعيا أن تغيب كل تلك النخبة الاتحادية وكل هؤلاء المثقفين والمناضلين والمتعاطفين؛ فعقد ونصف من الزمن ليس بالوقت الطويل في تاريخ تنظيم سياسي، والأخطاء التي ارتكبت ليست بتلك الخطورة التي يصوّرها البعض. فهناك أحزاب مغربية بنيت أساسا على الأخطاء وعلى الفضائح والفساد، وما زالت كما كانت تحصد الأصوات وتحتل المراتب الأولى دون أن يحاسبها شعب ودون أن يعاقبها ناخب. ما زال بإمكان الاتحاديين أن يعودوا إلى سابق قوتهم، وليس هناك من تكريم للراحل محمد جسوس ولغيره من مناضلي الحزب وقواعده ورموزه أفضل من منح الاتحاد دفعة مصداقية وأخلاق وديمقراطية، باسترجاع آلاف الاتحاديين الصامتين، وبفتح جريدة «الاتحاد الاشتراكي» أمام كل المتعاطفين، وكل الحداثيين في هذا البلد، وكل المبدعين والمثقفين، وكل الآراء، وكل الشباب المتنور، مع ضرورة إعادة النظر في شكل الجريدة وإخراجها الفني، إذ يبدو أن الاتحاديين فقدوا حتى ذوقهم الجمالي؛ وكما يناضل اليسار من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، فله أيضا نظرة جمالية إلى العالم وإلى الأشكال، تختلف تماما عن نظرة اليمين.
من أغرب ما قرأته هذا الأسبوع في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» في تغطيتها لجنازة الراحل محمد جسوس هو اعتذراها لكل القيادات التي لم تلتقط لها صور في التشييع، إنهم يمشون على البيض في الجريدة، ويعرفون أن هناك من سيغضب إذا لم تظهر صورته. هذا مع العلم أن إدريس لشكر، الكاتب الأول للحزب، لم يكن حاضرا، والذي تملأ صوره عادة معظم الصفحات. إنه لأمر مؤسف أن يختزل حزب مثل الاتحاد الاستراكي للقوات الشعبية في من يظهر في الصورة؛ والحال أن الصور هي مجرد نسخ للواقع، وليست هي الأصل.
عن مجلة الان