أحجمت عن كتابة الرأي منذ مدة ليست باليسيرة، وفي كل مرة ينتابني ماردها كنت اصرعه، لكنني شعرت به مع تباشير العام المقبل يهزني بعنف، ويقول لي "اكتب!"، فأجيبه:"ما أنا بكاتب" ويهزني، من جديد، فأتدثر، هربا لا خشية، إلى أن هزني بعنف لا كالأول، وقال لي:"أكتب باسم وطنك.." وطني الذي اختار التعبير على طريقته، وحقق التغيير على طريقته، وطني سجل الاستثناء الايجابي، أبناء وطني قالوا للفساد "ارحل" دون أن يسفكوا الدماء، وجاءت الاستجابة عبر دستور ينزله من اختارهم الشعب، في انتخابات لم يطعن احد في مصداقيتها... فهل تسير الأمور كما ينبغي لها؟ هل تحققت كل الأحلام والأماني.. طبعا ليس من السهل ترميم ما تآكل خلال سنوات غير أن استحضار الشعب في كل عملية تنموية يبقى دائما هو جوهر التنمية، وكلما تم تغيبه كلما كان الثمن غالياً جداً ومضاعفاً أضعافاً كثيرة. وكلما سارع الناس في علاج الفساد كانت التكلفة أقل والزمن لإعادة البناء أقصر والخطوات أسرع. إن الفساد خطير جداً، وأخطر منه ذيوله وبقاياه في تربة المجتمع بعد اقتلاعه، إن مشكلة الفساد الأضخم هي الذيول. مثل ذلك كمثل نبت خبيث تقتلعه من الأرض، فتظن أنك انتهيت من معدن الشر وأصله واقتلعته من الجذور، فتفاجأ أنه ترك بذوراً في الأرض ، ستظل تنبت نبتاً شيطانياً خبيثاً إلى أجيال قادمة
كم شفي أناس من الجدري وترك الجدري ندوبه في وجوههم تشويهاً وأحافير! وأمثال هؤلاء كمرض الجدري، حتى لو تعافيت منه ترك ندوبه
ألم تتحرر مستعمرات بريطانيا وفرنسا منذ عشرات السنين! فهل فعلاً تحررت، أم أنها ما زالت تابعة إلى الآن إن في إفريقية وإن في آسيا؟ وما زال الاستعمار في بعض الدول يحكم من خلال الوكلاء الذين هم أسوأ من الأصلاء
ولسوء حظ البشر في هذه الحقبة من الزمن أن الفساد قد أصبح دولياً كونياً ومقوننا، وأصبحت له مخالب وأظفار وأنياب وسجون وجند وأتباع ومؤسسات وإعلام وأجهزة
في هذا المستنقع القذر والخضم العكر، جرى إفساد السياسة في العالم العربي، والتقى الفساد والاستبداد فأحكمت حلقاتها وأظلمت وعمت البلايا وطمت! وكان الفساد وزيادة استشرائه السبب الأول في الثورات، وبالطبع ما رافقه من حماية لهذا الفساد بالعنف والبطش والقتل إن لزم
ولكن ها قد خلع «بن علي» « و مبارك» «والقذافي» «وصالح» فهل انتهت المشكلات في بلدانهم أم ابتدأت؟! لقد تركوا ندوباً غائرة في شبكة العلاقات الاجتماعية، وحولوا المجتمعات إلى حالة بدائية من القبلية والعشائرية والفئوية وسائر هذه التسميات فمتى تتعافى بلدانهم من آثارهم؟! وغداً إذا طاح الأسد، فهل انتهت مشكلات سوريا؟ لا بل إنها تكون ابتدأت
فهل علمنا الآن لماذا قالت الملائكة منذ بدء التكوين تسأل رب العالمين: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء
إن الحل بين أيدينا وقد بينه المولى عز وجل جواباً عن السؤال، أو الخشية المصوغة بصيغة سؤال بأن الحل يكون في العلم فقال: (وعلم آدم الأسماء كلها)، ومن بدء الخليقة والصراع دائر بين الفساد والصلاح والإفساد والإصلاح والعلم والجهل، لقد حان الوقت لتطهير الإدارة وسائر مؤسسات الدولة، طبعا الإعلام واحد منها، وعلى كل صاحب كلمة أن يقولها صادقة أو ليصمت... لذا أحجمت زمنا عن الكتابة
الشرقاوي مهداوي 17 دجنبر 2012