00:00يسود مفهوم الفوضوية كثير من الغموض والفوضى. وترجع الصعوبة في تحديد مفهوم الفوضوية إلى أن الكتاب الذين دعوا إليها كانو يختلفون كثيرا فيما بينهم. والفكرة الوحيدة بين زعماء هذا المذهب هي الخصومة للدولة والقول بضرورة إلغائها في المستقبل. والفوضويون انما يحاربون الدولة لتحرير الفرد من جميع القيود الإجتماعية. وبذلك فإن نظرتهم تناقض في الدرجة الأولى الإشتراكية التي تريد تحديد الحرية الشخصية إلى أبعد حد في سبيل المصلحة العامة.
يمكن إن نعتبر برودون كمؤسس للفوضوية. فقد نشر في سنة 1840 كتابه الأول بعنوان "ما هي الملكية؟" الذي هاجم فيه حق التملك الفردي وصرح بأن الملكية ليس سوى سرقة. ويرى برودون بأن أصل كل الشرور في الحياة الإجتماعية يرجع إلى أن قيمة الأشياء في النظام الإقتصادي الحر لا تقدر، كما يقتضي العدل، بمقدار العمل المبذول لإنتاجها بل حسب قانون العرض والطلب. وقد ازدادت هذه الشرور تفاقما بسبب تقسيم العمل وإستخدام الآلات. ومما يفسد الحياة الإقتصادية على رأيه، نظام النقد والفائدة اللذان يعرقلان التبادل الطبيعي ويساعدان بعض الأفراد من البشر على إستثمار الآخرين. وتظهر نزعة برودون الفوضوية في معارضته لكافة الأنظمة الحقوقية - الحكومية التي تفرض على الأفراد بالقوة ووسائل القهر. فهو يدعو إلى إستبدال هذه الأنظمة بعقود حرة بين الأفراد والجماعات يتعهد الجميع على التمسك بها، ويريد أن يقيم مكان الدولة نظاما اتحاديا يقسم السكان بموجبه إلى جماعات سياسية صغيرة تتمتع بسلطة لامركزية واسعة وتنظم شؤونها الداخلية وعلاقتها مع الجماعات الأخرى على أساس التعاقد الحر. ويدعي برودون بأن الإنسان يمييل بطبيعته إلى التمسك بالنظام وقواعد العدل وأن هذه الميول كفيلة بتحقيق التفاهم والإنسجام بين البشر، لولا أن سلطة الدولة، التي يستخدمها القابضون على زمام الحكم لمصلحتهم الخاصة، تفسد ذلك. يبرز لنا المذهب الفوضوي في مكان آخر في قالب مثالي، قريب من الشيوعية لدى الكاتبيين الروسيين باكونين وكروبوتكين. يقول باكونين: " أننا نرفض كل تشريع حقوقي وكل سلطة رسمية تميز بإمتيازات خاصة ولو كان ذلك بالإستناد إلى الإقتراع العام لأننا نعتقد بأن مثل هذه السلطة لا بد أن تصبح وسيلة لتأمين مصالح أقلية حاكمة تستثمر الأكثرية المستعبدة ولذلك فإننا بهذا المعنى فوضويون"
أما الامير بطرس كروبوتكين الذي اشتهر بكتابه عن "التضامن" فإنه يبشر بالمساوة المطلقة بين البشر وبالإنصاف والعدل والتضامن. وهو يرى بأن الدولة والتشريع الحقوقي، كما هما الآن، من أكبر العراقيل في سبيل تطور البشرية إلى حياة سعيدة، منسجمة، لأن النظام السياسي والحقوقي السائد انما يقتصر على حماية امتيازات أفراد قلائل. ولذلك يريد أن يستبدل بالتشريع الحالي نظام جديدا على أساس التعاقد الحر بين الأفراد، ويرى بأنه من السهل الوصول إلى تنفيذ العقود لأن جميع أفراد البشر يشعرون بالحاجة إلى التعاطف والتعاون ويخافون من فصلهم عن المجتمع إذا هم خالفوا ذلك.
ويبدو لنا المذهب الفوضوي في شكل آخر عند الكاتب الألماني يوهان كاسبار شميدت الذي إشتهر بإسمه المستعار ماكس شتيرنر. فبينما كان برودون اشتراكيا إنقلب فوضويا فإن شتيرنر ظل دوما من أكثر دعاة الفكرة الفردية تطرفا. فهو لا يعترف بأية حقائق دينية أو واجبات حقوقية. إن أسمى قانون لكل فرد هو، في نظره، السعادة الذاتية. فعلى كل شخص أن يتبع انانيته المحضة وليس لأي أحد إن يفرض عليه شيئا من القيود والقواعد. إنه لا ينكر حاجة الإنسان إلى الحياة الإجتماعية ولكنه لا يريد ذلك ضمن دولة بل ضمن جماعات ينتسب إليها الأفراد بإختيارهم ولا يخضعون فيها لأي قيد وإنما يستخدمونها في سبيل اغراضهم الشخصية.
-----------------------------------------------------------------------------------
الدكتور كامل عياد*
*من أرشيف مجلة الطريق