نظمت مؤخرا الجمعية المغربية لأمراض المناعة الذاتية والجهازية مؤتمرها الطبي الثاني بمدينة الدار البيضاء تحت شعار "الاستعدادات الوراثية وأمراض المناعة الذاتية والجهازية
من خلال هذا اللقاء تمت مناقشة اثنين من بين أهم أمراض المناعة الذاتية التي تتميز بتأهب جيني٬ مرض التهاب الفقار اللاصق والداء الزلاقي. يتميز مرض الفقار اللاصق بالتهاب العمود الفقري بينما يرتبط الداء الزلاقي بعدم تقبل الجسم لمادة الغلوتين الموجودة في القمح والشعير. هذان الدائان استقطبا في السنوات الأخيرة اهتماما خاصا من طرف الباحثين والمهتمين وعرفا ارتدادات عميقة لبعض المفاهيم التي التصقت بهم عقودا طويلة .
أمراض المناعة الذاتية تنجم عن أخطاء يرتكبها جهاز المناعة الذي من المفروض عليه حماية الجسم من كل العوامل الخارجية (كالبكتيريا و الفيروسات) وكذالك من الخلايا السرطانية التي تتكون في الجسم ، فإنه على خلاف ذلك يقوم بتدمير الأنسجة السليمة ظانا أنها أجساما غريبة.
هذا النوع من الأمراض التي يتجاوز عددها المائة، يشكل ثالث سبب للمراضة بعد السرطانات وأمراض القلب والشرايين. تصيب أمراض المناعة الذاتية ما بين 7 إلى 10 % من المغاربة أغلبيتهم الساحقة نساء إذ أنهم يشكلن 80% من مصابي أمراض المناعة الذاتية ؛ النساء إذن في صدارة أمراض المناعة الذاتية. رغم أهمية هاته الأمراض وخطورتها القصوى في بعض الحالات يبقى مفهوم المناعة الذاتية غير معروف لدى العموم.
الأسباب الجوهرية لهاته الأمراض تبقى غير محددة بالكامل، لكن من الواضح أنها مرتبطة بعدة عوامل تدخل فيها مكونات جينية وراثية وعوامل بيئية مختلفة منها: تعفنات فيروسية أو بكتيرية، أشعة الشمس، التدخين، التلوث البيئي والغذائي.
العامل الوراثي الذي يتدخل في هاته الأمراض هو من نوع خاص ؛ إذ أنه لا يستجيب لقوانين ميندل، لكنه يعتمد على نظام HLA (مستضد الكريات البيضاء البشرية Human leucocyte antigène ) بطاقة تعريفنا البيولوجية. هذا النظام نوع من رمز شريطي عبارة عن جزيئات متواجدة على سطح جميع خلايا الجسم باستثناء الكريات الحمراء. يلعب هذا النظام دورا هاما لمساعدة جهاز المناعة بالتمييز بين ما هو منتم إلى جسمنا وما هو دخيل عليه. لكن بعض هذه الجزيئات تلعب دورا سلبيا في اندلاع أمراض مناعية ذاتية. في حالة الداء الزلاقي، هنالك نظام HLA خاص، يتواجد تقريبا لدى كل الأشخاص الذين يعانون من هذا المرض ٬ هذا النظام لصيق بهذا المرض بحيث أن غيابه يمكن أن يقصي احتمالية المرض بصفة شبه مؤكدة.أما بالنسبة لمرض التهاب الفقار اللاصق، نجد أن 90% من المرضى المصابين هم إيجابيون لنظام B27 HLA ، غير أن 8 % للساكنة هم حاملون لهذا النظام والمرض لا يصيب إلا 0.5 من الناس.
هذا العامل الوراثي يعطي تفسيرا لوجود داخل نفس الأسرة عدة أشخاص مصابين بنفس المرض أو مرض ذاتي مناعي آخر. في داء التهاب الفقار اللاصق، نجد في 20% من الحالات أفراد آخرون في نفس العائلة يعانون من مشاكل تدور في نفس مجرة التهاب الفقار منها الصدفية والتهاب العيون. هذا العامل الوراثي الذي يتدخل في حدوث أمراض المناعة الذاتية يطرح إشكالية حاسمة في بلدنا نظرا لعادات وتقاليد زواج الأقارب.
عناصر أخرى تحيط بالجينات يمكن أن تغير تعبيراتها وذالك في غياب أي خلل أو عيوب فيها : إنه أساس "علم التخلقépigénéique »" ؛ وهوعلم حديث أكثر دقة و يهتم بمحيط الجينات . نعلم الآن أن الجينات يمكنها أن تكون "مفعلة" أو "مكبحة" من طرف مجموعات كيميائية، خاصة الميتيل «Méthyles ». يمكن لتغيرات في هاته العمليات الكيميائية أن تسبب أمراض مناعية ذاتية.
تجدر الإشارة إلى أن أمراض المناعة الذاتية في تصاعد مستمر عبر كل أنحاء العالم؛ بينما يشهد العالم انخفاضا في نسبة الأمراض المعدية، يمكن أن نشبه هذا الارتفاع "بالوباء الصامت" : حالات داء السكري لدى الأطفال من نوع 1 والتي تزداد سنويا بأكثر من 3% خير مثال على ذلك . إرثنا الجيني قد يكون في بعض الأحيان غير منسجم مع محيطنا الخارجي؛ فقد أثبتت الدراسات التي أجريت في جنوب الصحراء أن الأشخاص المهيئين لمرض داء الزلاقي أو المصابين به لديهم ملكات جينية تعطي لأجسامهم قدرة عالية ضد العدوى البكتيرية. هذه الميزة الإيجابية الوقائية التي كانت جد مفيدة سابقا ضد الأوبئة المعدية أصبحت الآن "غير مفيدة" نتيجة التطور والتغييرات البيئية
التهاب الفقار اللاصق مرض التهابي مزمن يصيب بالدرجة الأولى المفاصل المحورية والتي تشمل العمود الفقري خصوصا القطني منه، والمفصل العجزي الحرقفي. من الممكن أن يصيب كذلك المفاصل الطرفية منها الركبتين واليدين وخصوصا الوركين. من خصائص هذا المرض إصابة مكان اتصال أوتار العضلات والأربطة بالعظم.
لا يعرف السبب الجوهري للمرض٬ لكن يعد التهاب الفقار اللاصق من أمراض المناعة الذاتية التي يهاجم فيها جهاز المناعة لمكونات الجسم السليمة.يلعب الجانب الوراثي دورا هاما في نشوء المرض٬ تزداد مخاطرة الإصابة بالمرض لدى الأشخاص الحاملين للنمط الجينيHLA-B27.. إذ أن ما يقرب 90℅ من مرضى التهاب الفقار اللاصق هم حاملين لهاته الصبغة الجينية. في 20℅ من حالات هذا المرض نجد أفراد أقرباء للمريض حاملين لنفس المرض أو أمراض أخرى تدخل في نفس المجرة وهي الروماتيزم المصاحب للصدفية ٬أو التهابات القولون.
غالبا ما تبدأ الأعراض بمنطقة الحوض لترتفع تدريجيا إلى الأعلى لتصيب العمود الفقري بالكامل،تتجلى في آلام لأسفل الظهر خاصة في مؤخرة الليل مع تيبس في الصباح يجعل المصاب غير قادر على إجراء بعض الحركات المعينة كالانحناء إلى الأمام أو إلى الجانب. من مميزات التهاب الفقار أن الآلام تتحسن مع الحركة ولا تخضع للراحة عكس المشاكل الميكانيكية للظهر التي تلعب فيها الراحة دورا إيجابيا مهما. من بين أعراض المرض كذلك آلام في مشط الرجل وفي القفص الصدري له علاقة بالتهاب المفاصل الصغيرة لمقدمة الصدر قد تكون سببا في آلام وصعوبة في التنفس العميق ، وذلك بسبب عدم قدرة العظام الملتحمة على الحركة أثناء التنفس مما يؤدي إلى صعوبة في انتفاخ الرئتين بشكل تام . من الممكن أن يؤثر المرض على أعضاء أخرى خارج الجهاز الحركي منها العيون بالأخص حيث أن 40℅ من حالات التهاب الفقار اللاصق تضم التهابا للعيون خصوصا على صعيد القزحية وهذا المشكل يعتبر واحداً من أكثر الاختلاطات شيوعاً لالتهاب الفقار اللاصق . كما أن هناك إمكانية حدوث خلل في نظام دقات القلب وتليف قمة الرئتين ومشاكل في الجهاز الهضمي وفي الكليتين.
يصيب التهاب الفقار اللاصق أشخاصا في مرحلة الشباب ٬يبدأ عادة في المراحل المتأخرة من المراهقة أو في وقت مبكر من البلوغ. في السابق كان يوصف المرض بأنه ذكوري بامتياز إذ كان يعد إصابة تسع رجال مقابل امرأة واحدة٬ لكن الدراسات الأخيرة بينت أن الفرق ليس بهذا الحجم وذلك من خلال تحسن آليات التشخيص المبكر . صار من المؤكد أن المرض يخص المرأة كذلك لكن بشكل أقل حدة وخطورة.
لا يتبع التهاب الفقار اللاصق نمطاً محدداً في التطوّر، وتختلف شدة الأعراض وتطوّر المضاعفات بشكل كبير من شخص لآخر عندما تستمر العملية الالتهابية، تتشكل عظام جديدة كجزء من محاولة الجسم للشفاء. يقوم العظم الجديد بإغلاق الفراغ بين الفقرات ويؤدي في النهاية إلى التحام الفقرات بعضها ببعض،مما يجعلها عرضة للكسور. يمكن أن يحدث الالتحام أيضاً في غضاريف الأضلاع فتحد من سعة الرئة.
مع توفر الأدوية الفعالة ضد الالتهاب وخصوصا مع ظهور المنتجات البيولوجية٬ لم نعد نصادف الحالات المتطورة جدا والتي من الممكن نعتها الآن بالتاريخية والتي تتميز بانحناء شديد للقامة وتشوهات وضع الرقبة على الصدر
مرض متعدد الأقنعة وليس حكرا على الأطفال
ينتج الداء الزلاقي عن اضطراب في جهاز الهضم وينجم عن عدم تحمل مادة الغلوتين التي توجد في القمح ومشتقاته، ولهذا المرض عدة تسميات منها سوء الامتصاص - التحسس للغلوتين - التحسس للقمح - اعتلال الأمعاء بالغلوتين - الإسهال غير الاستوائي . هو مرض مناعي ذاتي يصيب الجهاز الهضمي على صعيد الأمعاء الدقيقة ويحدث عند الأشخاص المستعدين جينياً للإصابة. هو بمثابة رد فعل على التعرض لمادة الغلوتين الموجودة في الخبز،وأنواع أخرى من الأطعمة التي تحتوي على مادة القمح أو الشوفان، لكن تداعياته تطال الجسم كله. إذ يسبب عنه سوء امتصاص ويوجب حمية خالية من الغلوتين مدى الحياة.حين يتناول شخص ما مصاب بالداء الزلاقي أطعمة تحتوي على مادة الغلوتين يقوم الجهاز المناعي في جسمه بمهاجمة أنسجة الأمعاء الدقيقة فيسبب ضررا لبطانة الأمعاء،مما يجعلها عاجزة عن امتصاص بعض مركبات الغذاء الضرورية.ويؤدي سوء امتصاص المواء الغذائية هذا في نهاية المطاف إلى نقص في الفيتامينات،يحول بدوره دون وصول مركبات غذائية أساسية،حيوية ضرورية لعمل الدماغ، الجهاز العصبي، العظام،الكبد وأعضاء أساسية أخرى،مما يؤدي إلى حدوث خلل في وظائف هذه الأعضاء.
يصيب المرض كل الأعراق وينتشر في أنحاء العالم كله لكنه أكثر شيوعاً في شمال أوربا وأمريكا بحيث بينت الدراسات إلى أن نسبة شيوعه عالية وتقدر بين 0.5-1 % من عموم السكان مع تباين كبير في عمر ظهور الأعراض .تعد بلادنا المغرب كذلك من أكثر البلدان المعنية بالأمر حيث تصل الإصابة إلى 3℅ في مناطقنا الجنوبية وذلك اعتمادا إلى أبحاث قامت بها المنظمة العالمية للصحة.ومن الأفكار الشائعة أن هذا المرض يخص فقط الطفل عند إدخال مادة الغلوتين في التغذية وأن المشكل يحل في غضون سنوات معدودة مع حمية مؤقتة بدون هذه المادة٬ لكن تبين أنه في حالات عديدة يظهر المرض عند البالغين دون سابق إنذار ودون مشاكل صحية أثناء الطفولة. 20℅ من الأشخاص الذين يظهر عليهم المرض يكونوا قد تخطوا عتبة الستين . ونسبة انتشار الداء الزلاقي عند الأطفال بين عمر 2.5-15 سنة في عموم السكان يتراوح بين 3- 13 /ألف طفل ويساوي تقريبا 1/300طفل إلى 1/80 طفل. وقد تبين في الولايات المتحدة أنه مقابل كل طفل يشخص له داء زلاقي يوجد 53 طفل لديهم داء زلاقي غير مشخص وناتج ذلك عن المجال الواسع لتظاهرات المرض.
أما بالنسبة لأعراض المرض فهي غير واضحة ٬ ففي الحالات النموذجية والتي لا تمثل إلا 20℅ ٬تدل الأعراض إلى الجهاز الهضمي فيكون هناك إسهال ٬آلام البطن مع انتفاخ يكون في بعض الأحيان ملفتا للنظر. وقد لا تظهر على الشخص المصاب بالداء الزلاقي أية أعراض ذات علاقة بالمعدة أو بالأمعاء،أو بالجهاز الهضمي عامة،أو قد تكون الأعراض التي يعاني منها مرضى الداء الزلاقي مشابهة لأعراض ترافق أمراضا أخرى مثل:فقر الدم،اضطرابات جلدية،اضطرابات في الجهاز العصبي ٬ألام في العظام والمفاصل ٬تقرحات في الفم، بالإضافة يعاني مرضى الداء الزلاقي من أعراض أقل ظهورا للعيان،تشمل الضيق والاكتئاب آلام في المفاصل، طفح جلدي تقرحات في الفم مشاكل في الأسنان أو في العظام ٬ مشاكل في الإخصاب أو في الدورة الشهرية.
تبدأ أعراض المرض في أي سن لكنها عادةً ما تظهر في مرحلة الطفولة وبعد إدخال القمح في طعام الطفل، ويحدث عادة بين عمر (1-3) سنوات، وقد لا تظهر إلا بعد حدث هام في حياة الطفل كتغيير المدرسة أو مرض آخر شديد أو حادث ما أو الحمل عند الفتيات..
غالباً ما تكون أعراض الداء الزلاقي غامضة وشبيهة بأعراض حالات أخرى، ما يجعل من تشخيص المرض أمراً عسيراً والأعراض كثيرة ومتعددة حسب درجة التحسس وزمن المراجعة للتشخيص، ومن الأعراض التي تُشاهد: (الإسهال، تغير طبيعة البراز ورائحته، فيصبح البراز ذو رائحة كريهة جداً ودهني ولونه متبدل، نقص الوزن، تعب ووهن عام، ألم بطني)، ثم تظهر الأعراض المتقدمة من المرض في حال لم يشخص المرض ولم تتخذ التدابير الوقائية له نتيجة نقص امتصاص الفيتامينات والبروتينات والأملاح المعدنية من الأمعاء والذي يؤثر على جميع أعضاء الجسم بدون استثناء.ويعتبر الغلوتين هو البروتين الذي يسبب التحسس، وهو موجود في القمح والشعير ومع ملامسة الغلوتين للأمعاء فإنه يحصل رد فعل مناعي لجدار الأمعاء مما يسبب حدوث التهاب فيها وإلى تدمير الزغب المعوية وتسطحها وفقدانها لشكلها المميز، وبالتالي حدوث سوء امتصاص للغذاء على مستوى الأمعاء وما يتبعه من أعراض وعلامات نتيجة نقص المواد الغذائية التالي لتعطل وظيفة الأمعاء على امتصاص المواد المغذية من فيتامينات ومعادن والكثير من المواد المغذية الأخرى وما يتبعه على النمو والصحة العامة.
لا يعرف السبب الحقيقي حتى الآن، ولكن هناك استعداد وراثي للمرض وبالتالي قد تشاهد الحالة في بعض العائلات أكثر من غيرها، فوجود قريب من الدرجة الأولى كالأب أو الأم أو أحد الإخوة مصاباً بالداء الزلاقي يرجح بنسبة (5 إلى 10%)؛ لأن يكون هناك شخص آخر مصاب في العائلة.
يصيب الداء الزلاقي النساء أكثر من الرجال بمعدل اثنان إلى ثلاث أضعاف . ليس هناك مسبب واضح للداء الزلاقي لكن المسبب المرجح على الأغلب هو عامل وراثي،إذا كان أحد أفراد العائلة مصابا بالداء الزلاقي،فان احتمال الإصابة يتراوح ما بين 5 و15 بالمائة.
بالرغم من أن هذا الداء قد يصيب أي إنسان،إلا أن احتمال الإصابة بهذا المرض يكون أكبر لدى الأشخاص الذين يعانون من: داء السكري من نوع 1 إذ أنهم يصابون بهذا المرض بنسبة 5 إلى 10℅ أو من مرض مناعي آخر مثل مشاكل في عمل الغدة الدرقية آو متلازمة شوغرين.
إذا لم تتم معالجة الداء الزلاقي فقد يؤدي الأمر إلى العديد من المضاعفات منها سوء التغذية،فقد الكالسيوم وانخفاض في كثافة العظام.
يمكن السيطرة على المرض عن طريق إتباع نظام غذائي ملائم . عند تناول أطعمة خالية من الغلوتين يبدأ الالتهاب الناشئ في الأمعاء الدقيقة بالتراجع خلال بضعة أسابيع بشكل عام،ومع ذلك يبدأ الشعور العام بالتحسن خلال أيام من بدأ التغيير في النظام الغذائي.